• دراسة في اثر تعديل تموز 2008 الدستوري -

علي عيسى اليعقـــوبي

باحث في القانون الدستوري

 كلية الحقوق/  كليرمونت فيرون 1 - جامعة اوفيرن الفرنسية

المقدمـــــــــــــة

بـــــدأ الرئيس نيكولا ساركوزي حملته الانتخابية عام 2007 بالدعوة الى تحديث مؤسسات الجمهورية الخامسة مُعلنا  نيتـــه قيادة التعديل الثالث والعشرين لدستور الجمهورية الفرنسية لعام 1958 و فور وصوله قصر الاليزا بدأ بتنفيذ وعده الانتخابي بتكليف السياسي المخضرم ادوارد بلادور[1] رئاسة لجنة تضم مجموعة من المحامـــين الدستوريين و الشخصيات السياسية من ذوي الخبرة في القانون لهذا الغرض .

احتوى تقرير هذه اللجنة مجموعة من الاقتراحات لتحديث مؤسسات الجمهورية الفرنسية و استنادا الى ذلك تم بلورة اقتراح تعديل الدستور الفرنسي و فعلا تمت مــــوافقة الجمعية الوطنية ثم موافقة مجلس الشيوخ التي مهدت الطريق أمام اعلان الإقرار النهائي لهذه التعديلات في اجتماع البرلمان الفرنسي بمجلسيه في قصر فرساي بكل ما يحمله مكان الاجتماع من دلالات تاريخية [2].

و إذا جاز لنا القول ان التطور و التحديث المستمر اهم سمة ميزت دستور الجمهورية الخامسة الفرنسي[3] ، الذي طالت تعديلاته الثلاث و العشرين – الى الان -  ما يقرب الــ  40% من نصوصه[4] ، فانه ينبغي الاقرار بأن تعديل 23 تموز 2008 الاخير يعتبر الابرز و الاهم على الاطلاق في تاريخ هذا الدستور. و لا ريب ان إضافة المادة 61-1 إلى الدستور تمثل العصب الجوهري لهذا التعديل ، فقد دخلت هذه المادة حيز النفاذ في الأول من آذار 2010  بعد صدور قانونها التنظيمي في 10-12-2009 وعدد من المراسيم التنفيذية التي تسهل تنفيذها و تبين آلية تطبيقها ،  و تأتي اهمية هذه المادة من حيث  منحها الافراد - و لأول مرة في التاريخ الدستوري الفرنسي -  الحق في الطعن بدستورية الأحكام التشريعية أمام القضاء مباشرة.

كانت فرنسا البلد الأوربي الوحيد الذي لا يسمح دستورها بالرقابة اللاحقة على دستورية القوانين و كانت الرقابة الوقائية التي تُمارس بعد التصويت على القانون في البرلمان و قبل إصداره من رئيس الجمهورية السمّة الأبرز التي تميز الرقابة الدستورية في هذا البلد[5].

و من المعلوم ان المجلس الدستوري[6] هو المسئول دستوريا عن الرقابة و ضمان مطابقة القوانين للدستور فضلا عن ممارسته صلاحيات عديدة أخرى[7]. يتكون هذا المجلس من صنفين من الأعضاء بحسب المادة 57 من الدستور : الصنف الأول يتم تسّميتهم و الصنف الأخر أعضاء بحكم القانون ،  يتكون الصنف الأول من تسعة أعضاء يعين ثلاثة منهم من قبل رئيس الجمهورية و ثلاثة من قبل رئيس الجمعية الوطنية وثلاثة من قبل رئيس مجلس الشيوخ أما الصنف الثاني فهم رؤساء الجمهورية السابقون وهم أعضاء مدى الحياة.  لم يتضمن تعديل 23 تموز 2008 الدستوري المساس بهذه الجهة (المجلس الدستوري ) من حيث كونها صاحبة الاختصاص في النظر في دستورية القوانين لكنه ادخل تغييرا جذريا على آلية ممارسة هذا الاختصاص و طرق الإحالة إلى المجلس الدستوري الذي أصبح يمارس مهامه من خلال المزج بين نظامين من الرقابة : الرقابة الأولى التي نظمها دستور 1958 والتي تسمى الرقابة السابقة على إصدار القانون و الرقابة الثانية : التي أدرجت بعد تعديل 28 تموز الدستوري 2008 والتي تسمى الرقابة اللاحقة على إصدار القانون و هذين المحورين هما موضوع دراستنا هذه،   أما الرقابة على مطابقة القوانين للمعاهدات و الاتفاقات الدولية التي تكون فرنسا طرفا فيها (conventionnalité)  فأننا سوف لن نتناولها في هذه الدراسة على أمل أن نفرد لها بحثا منفصلا كون المجلس الدستوري غير مختص في النظر فيها فبالرغم ان الدستور الفرنسي نص في ديباجته على "الجمهورية الفرنسية و وفاءا لتقاليدها تمتثل لقواعد القانون الدولي العام"  و  نصت مادته الــ 55 ايضا على ان "المعاهدات و الاتفاقات الدولية المصادقة او الموافق عليها ، لها عند نشرها ، سلطة أعلى من القانون بشرط ان كل اتفاق او معاهدة يتم تطبيقه من جانب الطرف الآخر"  لكـــــن  - وبالرغم من وجود هذه النصوص - فأن المجلس الدستوري و في قراره المُتخذ بتاريخ 15 تموز  1975  رفض ممارسة الرقابة على مطابقة القوانين للمعاهدات و الاتفاقات الدولية معلنا ان "المعاهدات وان كانت فوق القوانين لكن ليس لها علو الدستور لأنها نسبية و احتمالية" وفق تفصيل تضمنه هذا القرار لسنا هنا بصدد بيانه.  و بناءا على  ذلك مارست المحاكم القضائية محكمة النقض (التمييز)  منذ 24-5-1975 و المحاكم الادارية (مجلس الدولة الفرنسي ) منذ 20-9-1989 النظر في مطابقة القوانين للمعاهدات والاتفاقات الدولية التي صادقت عليها فرنسا .

تأسيسا على ذلك ستكون دراستنا لهذا الموضوع : بيان اثر تعديل 28 تموز 2008 على الرقابة على دستورية القوانين في فرنسا التي يمارسها المجلس الدستوري الذي بات و منذ الأول من آذار 2010 تاريخ دخول هذا التعديل حيز النفاذ ينظر نوعين من الرقابة : الرقابة السابقة من خلال إحالة القوانين على المجلس للنظر في دستوريتها قبل صدور القانون (وهذا ما سنتناوله في الفصل الأول ) وفق التنظيم الدستوري للجمهورية الخامسة 1958. و الرقابة اللاحقة من خلال إحالة القوانين على المجلس للنظر في دستوريتها بعد صدور القانون (و هذا ما سنتناوله في الفصل الثاني) و هو الاختصاص الذي استحدثه تعديل 28 تموز 2008 الدستوري و لحداثته سنحاول بيان أحكامه بشكل مفصل.

 

الفصل الأول) : الرقابة السابقة) إحالة القوانين إلى المجلس الدستوري قبل إصدارها.

تمارس الرقابة السابقة على دستورية القوانين من خلال إحالة القوانين إلى المجلس الدستوري للنظر في دستوريتها بعد التصويت على القانون في البرلمان و قبل إصداره من رئيس الجمهورية وهذا ما يعرف بـــــ (الإحالة السابقة)  وقد  بيًن القرار التنظيمي في 7-11-1958 الذي صدر استنادا إلى نص المادة 61 من الدستور آلية الإحالة السابقة الى المجلس الدستوري ، ولبيان ذلك ينبغي لنا دراسة هذا الموضوع من خلال إيضاح الإحالة الوجوبيه التي تلزم إحالة القوانين إلى المجلس الدستوري للنظر في دستوريتها  وهذا ما سنتناوله في (المبحث الأول) و الإحالة الاختياريه التي تجيز للسلطات المختصة دستوريا إحالة القوانين إن رأت مبررا لذلك (المبحث الثاني).

المبحث الأول  (الإحالة الوجوبيه )

 وفقا لهذا النوع من الإحالة  فأن إصدار التشريعات غير ممكن ما لم تمر عبر المجلس الدستوري ، الذي يقرر مطابقة أحكامها لنصوص الدستور من عدمه ، و بذلك فأن المجلس الدستوري ينظر وجوبا في دستورية كل من  :

  1. القوانين التنظيمية (loi organique) وهي نصوص ذات صفة تنظيمية يمكن ان تصدر من السلطة التنظيمية  "الحكومـــة".

و معلــوم ان النظام القانوني الفرنسي يميز بين نوعين من النصوص القانونية هما : القوانين التنظيمية التي بينَا معناها ، و القوانين العادية (loi ordinaire ) وهي نصوص ذات صفة تشريعية يجب ان تصدر من البرلمان[8]. و بذلك فأن القوانين التنظيمية فقط هي الواجب إحالتها الى المجلس الدستوري[9].

  1. النظام الداخلي لكل من مجلسي البرلمان اي الجمعية الوطنية و مجلس الشيوخ[10]. وبذلك فان كل من النظام الداخلي للجمعية الوطنية والنظام الداخلي لمجلس الشيوخ يجب إحالته للمجلس الدستوري للنظر في دستوريته قبل إصداره.
  2. مقترح القانون المقـــدم للاستفتاء من خُمس أعضاء البرلمان مشفوعا بتأييد عُشر الناخبين المسجلين في القوائم الانتخابية[11]. و قد أوضحت المادة 11 من الدستور الفرنسي الية اجراء الاستفتاء الدستورية بتحديد القنوات الدستورية التي لها الحق بطلب الاستفتاء والمواضيع التي يتضمنها  حيث يحق لكل من  :
  1. رئيس الجمهورية بناءا على اقتراح الحكومة أو اقتراح مقدم من البرلمان بمجلسيه (الجمعية الوطنية و مجلس الشيوخ) ، علما ان مقترح الاستفتاء اذا كان مقدم من الحكومة الى رئيس الجمهورية  يجب اعلانه على مجلسي البرلمان لمناقشته.
  2. خُمس اعضاء البرلمان (بمجلسيه) و بموافقة عُشر الناخبين المسجلين في القوائم الانتخابية ، شرط ان لا يكون موضوع الاستفتاء إلغاء حكما تشريعيا لم يمض على إصداره سنة كاملة.

كما اشترط الدستور ان يتعلق مشروع او مقترح القانون المراد طرحه للاستفتاء  بـــــالمواضيع الاتيه :     

  • تنظيم السلطات العامة.
  • اصلاحات تتعلق بالسياسة الاقتصادية ، الاجتماعية ، البيئية للبلد او الخدمات العامة التي تساهم في تحقيق هذه السياسات.
  • اصلاح من شأنه ان يسمح  بالمصادقة على معاهدة لا تتعارض مع الدستور و لكنها تؤثر على نشاط  المؤسسات العامة.

نستطيع القول اذن ان رئيس الجمهورية يعتبر القناة الدستورية الاولى لتقديم مشروعات القوانين للاستفتاء وفق التفصيل المشار اليه اعلاه ، وهي قناة لا تخضع لرقابة المجلس الدستوري ، اما القناة الثانية فتخضع للإحالة الوجوبية حيث يجب عرض مقترح القانون المقـــدم من خُمس أعضاء البرلمان مشفوعا بتأييد عُشر الناخبين المسجلين في القوائم الانتخابية ، المراد الاستفتاء عليه ، على المجلس الدستوري للبت في دستوريته قبل عرضه على الاستفتاء.

 

المبحث الثاني ( الإحالة الاختيارية) :

وفقا لهذا النوع فأن إحالة القوانين إلى المجلس الدستوري تعتبر اختيارية للنظر في دستورية كل من :

  1. القوانين العادية (loi ordinaire ) وهي النصوص ذات الصفة التشريعية التي  يصدرها البرلمان.
  2. المعاهدات الدولية التي ينظر المجلس الدستوري  في دستوريتها فأن اقر بأنها غير دستورية عندئذ يتعذر على رئيس الجمهورية تصديقها الا بعد تعديل الدستور[12] .

 المجلس الدستوري ، كهيئة دستورية ، لا يمكنه الانعقاد من تلقاء نفسه لأداء مهامه في الرقابة على دستورية القوانين وإنما ينعقد بناءا على طلب من الجهات المختصة دستوريا وهي  [13]

  1. رئيس الجمهورية .
  2. رئيس الوزراء .
  3. رئيس الجمعية الوطنية.
  4. رئيس مجلس الشيوخ.
  5. ستين نائبا (عضو جمعية الوطنية) أو ستين سيناتور (عضو مجلس الشيوخ). وقد أُضيفت الفئة الخامسة بموجب التعديل الدستوري عام 1974 لتفادي ان تكون جميع الفئات الأربعة السالفة الذكر من كتلة سياسية واحدة وبالتالي إمكانية اتفاقهم على عدم الطعن في دستورية القوانين فضلا عن فسح المجال للمعارضة أو الأقلية البرلمانية لممارسة الرقابة على عمل الحكومة او قرارات الأكثرية البرلمانية من خلال حقها في طلب فحص دستورية القوانين.

وهذا يعني ان على رئيس الجمهورية او الجهات المخولة دستوريا ان تقدم طلبها الى المجلس الدستوري للانعقاد للنظر بدستورية القوانين ، ان وجدت مبررا لذلك ، بعد إقراره في البرلمان بمجلسيه (الجمعية الوطنية و مجلس الشيوخ) و قبل إصداره من رئيس الجمهورية الذي يصدر القوانين خلال خمسة عشر يوما من اقراها في البرلمان ،  اما اذا لم يتم الطعن في دستورية القانون فأن رئيس الجمهورية يقوم باصدراه  ، و يســــتثنى من ذلك القوانين التي يقررها الشعب عن طريق الاستفتاء حيث لا يختص المجلس الدستوري في النظر بدستورية هذه القوانين بعد فوزها.

 وعندما يستلم المجلس الدستوري  الطلب فانه عليه ان يبت في دستورية النص من عدمه خلال شهر واحد، و من حق الحكومة الطلب من المجلس التعجيل بإصدار حكمه اذا كانت هناك حالة طارئة وفي هذه الحالة يصدر المجلس حكمه خلال ثمانية ايام فقط[14].

المجلس الدستوري وعند فحصه للنصوص المطعون في دستوريتها قد يعتمد مدى الاحالة الواسعة وهذا يعني ان يتجاوز الفقرة المطعون فيها الى كامل النص القانوني ،  او يعتمد  مدى الاحالة الضيقة التي يلتزم بفحص النصوص المطعون فيها دون غيرها.

و تصـــدر قرارات المجلس على شكل تصريح على ان تكون مسببة وتنشر في الجريدة الرسمية ، علما ان تصريح المجلس الدستوري غير قابل للطعن و ملزم للجميع .

 و لقرارات المجلس الدستوري اثار مهمة : فإذا كان التصريح او القرار يتضمن ان القانون المبحوث فيه يشتمل على نص مخالف للدستور وغير قابل للفصل من القانون عندئذ يعتبر القانون بأجمعه مخالف للدستور و لا يمكن تصديقه ،  اما اذا كان التصريح يقتصر على وجود نص مخالف للدستور لكن يمكن فصله عن بقية نصوص القانون ففي هذه الحالة يكون لرئيس الجمهورية الحق بإصدار القانون بعد استثناء النص الغير دستوري او ان يطلب من الجمعية الوطنية إعادة فحص النصوص القانونية التي اعتبرت غير دستورية ،  و المجلس الدستوري هو الذي يقرر فيما اذا كان القانون بنصوصه الغير دستورية قابلا للتطبيق و الإصدار ام لا[15] .

ان إمعان النظر في تقدير الرقابة السابقة على دستورية القوانين  يقودنا الى القول ان هذه الرقابة وان كانت تحقق نوعا من الاستقرار الدستوري كونها رقابة وقائية تضمن قيام القوانين على أُسس دستورية إلا أنها تمنع كشف عيوب النص القانوني التي ستبرز عــند تطبيقه ، فضلا عن انعدام اي دور للأفراد في ممارسة حق الطعن بدستورية القوانين و غياب تام لدور المحاكم في ممارسة اي شكل من أشكال الرقابة. هذه الأسباب وغيرها بررت اتجاه المشرع الفرنسي إلى الأخذ بالرقابة اللاحقة كما سنرى .

 

الفصل الثاني (الرقابة اللاحقة): إحالة القوانين إلى المجلس الدستوري بعد إصدارها.

وفقا لهذا النوع من الرقابة فأن المجلس الدستوري ينظر في دستورية القوانين بعد إصدارها و دخولها حيز النفاذ ، ما يعني انه يمارس رقابه لاحقة على اصدار القوانين ، و هو إجراء استحدثه تعديل 23 تموز 2008 الدستوري بموجب اضافة المادة 61-1 من الدستور التي تنص على : (عنــــد ، مناسبة النظر في دعوى مقامـــة أمام القضاء ، و دَفعَ - احد أطراف الدعوى –  بأن حكما تشريعيا ينتهك الحقوق والحريات التي كفلها الدستور ، يستطيع المجلس الدستوري النظر في هذه المسألة بناءا على إحالتها اليه من مجلس الدولة او محكمة النقض الذّين يتخذان قرارهما خلال فترة محددة و يحدد بقانون تنظيمي شروط تطبيق هذه المادة) .

 

و استنادا الى ذلك صدر القانون التنظيمي الذي اشارت اليه هذه المادة في 10-12-2009 الذي سمى هذه الرقابة  – مسألة الأولوية الدستورية - (la question prioritaire de constitutionnalité) او اختصارا (QPC)[16] ، و في الأول من آذار 2010 دخلت احكام المادة 61-1 حيز النفاذ و شرعت المحاكم الفرنسية بتطبيق أحكامها وفق ما اشار اليها الدستور ونظمها القانون التنظيمي، و نستطيع ان نوجز اهم معالم هذا التعديل الدستوري بشأن  الرقابة على دستورية القوانين في فرنسا  في ثلاثة جوانب[17] :

الأول : أجاز للإفراد (المتخاصمين في دعوى منظورة قضائيا)  الطعن في دستورية القوانين التي تنتهك الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور امام القضاء العادي.

الثاني : اختصاص مجلس الدولة (اذا كانت الدعوى مرفوعة امام المحاكم الادارية) او محكمة النقض (اذا كانت الدعوى مرفوعة امام المحاكم العادية) في احالة الطعن الى المجلس الدستوري من عدمه .

الثالث : احتفاظ  المجلس الدستوري بصلاحية البت في هذه الطعون. 

تأسيسا على ذلك سنحاول بيان آلية مسار الرقابة على دستورية القوانين وفق هذا التعديل الذي افتتح عهد الرقابة اللاحقة في فرنسا ( المبحث الاول) ، ثم تقدير هذه الرقابة وأثرها في النظام القانوني الفرنسي (المبحث الثاني)

المبحث الأول :  آلية الرقابة اللاحقة

أتاح هذا التعديل و لأول مرة للأفراد الطعن بـــــالإحكام التشريعية (disposition législative) امام القضاء العادي ، و نعني بالأحكام التشريعية النصوص التي اعتمدتها السلطة التشريعية ممثلة بالبرلمان الفرنسي بمجلسيه (الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ) ،  ما يعني ان محل الطعن (الحكم الذي يُدفع بعدم دستوريته) يجب أن يكون حكما تشريعيا صُوّت عليه من قبل البرلمان ، و يمكننا أن نبيّن الأحكام التشريعية التي يصوت عليها البرلمان بـــالاتي : 

  • القوانين العادية.
  • القوانين التنظيمية.[18] 
  • القرارات (ordonnance) التي يصدرها رئيس الجمهورية و يصادق عليها البرلمان.
  • القوانين الصادرة من كاليدونيا الجديدة[19] ( وهي اقليم يخضع للسيادة الفرنسية).

اما القرارات الرئاسية التي لم يصادق عليها في البرلمان و المراسيم (décrets) و الأوامر و القرارات الفردية سوف لن تكون محلا للطعن لأنها ستكون خاضعة لرقابة القضاء الإداري[20].

من جانب اخر فان الحكم التشريعي و لكي يكون صالحا للطعن فيه يشترط ان ينتهك الحقوق والحريات التي كفلها الدستور ، علما ان الحقوق و الحريات المكفولة دستوريا هي النصوص التي تحتويها التشريعات الاتية[21] :

  • دستور 4 تشرين الأول لعام 1958 و تعديلاته الكاملة (دستور الجمهورية الخامسة النافذ الان).
  • النصوص التي احالت اليها ديباجة دستور 4 تشرين الاول 1958 وهي :
  • اعلان حقوق الإنسان و المواطن عام 1789  .
  • ديباجة الدستور الفرنسي لعام  1948.
  • المبادئ الأساسية التي اعترفت بها قوانين الجمهورية الفرنسية،  المشار إليها في ديباجة دستور 1946، مثل حرية تأسيس الجمعيات و حرية التعليم وغيرها .
  • الميثاق البيئي لعام 2004. و هــــو نص له قيمة دستورية يكرس حقوق الانسان في مجتمعه وبيئته اقره البرلمان الفرنسي عام  2004 استجابة لجهود الرئيس جاك شيراك[22] ، و في الثاني من شباط 2005 اكتسب هذا الميثاق أهمية خاصة بعد تبني البرلمان تعديلا دستوريا يضفي على الميثاق البيئي قيمة دستورية بعد الإشارة إليه في ديباجة دستور 1958[23].

 

و يثار الدفع بعدم دستورية القانون او مسألة أولوية الدستور ، كما اسماها القانون التنظيمي ،  أمام المحاكم  و بمختلف درجاتها سواء أمام محاكم الدرجة الأولى او الاستئناف او النقض[24]. وبمختلف أنواعها سواء كانت ادراية تابعة لمجلس الدولة او عادية تابعة لمحكمة النقض يستثنى من ذلك المحاكم الجنائية (la cour d'assises) فلا يمكن اثارة الطعن امامها ،  و مع ذلك يمكن اثارة الطعن في المراحل التي تسبق احالة القضية الى المحكمة الجنائية اي الطعن امام قاضي التحقيق (le juge d'instruction) او المراحل التي تلي المحكمة الجنائية اي امام محكمة الاستئناف او محكمة النقض.

و يجب في الطعن بعدم دستورية النص التشريعي المقدم امام المحكمة ان يكون مكتوبا ومسببا و منفصلا عن بقية إجراءات الدعوى الأخرى عندها يجب على القاضي النظر في هذا الطعن مباشرة و دون تأخير معلنا "أولويته" على بقية إجراءات الدعوى ، ثم ينظر القاضي في الطعن فأن كان مقبولا و مستوفيا للشروط التي وضعها القانون التنظيمي في 10-12-2009 وجب عليه احالة القضية الى محكمة النقض (ان كان قاضيا عاديا) او مجلس الدولة (ان كان قاضيا إداريا) اما اذا رفض القاضي احالة الطعن بسبب كونه غير مقبولا او غير مستوف للشروط فأن قراره يكون  قابل  للطعن.

 و بعد وصول الطعن الى محكمة النقض او مجلس الدولة – بحسب الاختصاص – يتم اخضاع الطعن لمزيد من الفحص و الدراســــة خلال مدة لا تتجاوز الثلاثة اشهر بعدها  يجب اتخاذ القرار اما بقبول الطعن وهذا يعني احالته الى المجلس الدستوري او رفضه وهذا يعني منع إحالته إلى المجلس الدستوري وردهُ نهائيا ، ويكون قرار محكمة النقض او مجلس الدولة في هذه الحالة نهائيا وغير قابل للطعن .

 ان احالة النص التشريعي المطعون في دستوريته الى المجلس الدستوري يعني ان الطعن دخل مرحلته النهائية ،  و قد بيّن قانون 10 -12- 2009 التنظيمي  ثلاث معايير رئيسة يعتمدها المجلس الدستوري  خلال فحصه النص التشريعي محل الطعن وهي :

  • ان يكون النص التشريعي المطعون فيه : ينطبق على النزاع بين طرفي الدعوى او الإجراءات القضائية المطبقة عليهم او ركنا أساسي في المحاكمة.
  • ان يكون النص التشريعي المطعون فيه غير منظور سابقا امام المجلس الدستوري او قضى المجلس بمطابقته للدستور ،  يستثنى من ذلك اذا استجدت ظروف جديدة .
  • أن يكون الطعن المقدم  ذو  طبيعة جدّية.

و بعد توفر هذه المعايير يتوجب على المجلس الدستوري اتخاذ قراره بشأن دستورية النص التشريعي من عدمه خلال ثلاثة أشهر، و لضمان تبادل اللوائح والإخطارات بين طرفي الدعوى خلال هذه المدة القصيرة نسبيا يتم تبادل المعلومات الكترونيا حيث يتوجب على طرفي الدعوى إعلان البريد الالكتروني الذي يتواصلون به مع المجلس لضمان اختصار الوقت ، وبعد انتهاء تبادل اللوائح بين الطرفين المتخاصمين يحال النزاع إلى جلسه استماع عامة حيث يمكن للمحامين خلالها تقديم مذكراتهم الشفوية ، و بعد انتهاء جلسات الاستماع العام يصدر المجلس الدستوري حكمه[25].

اما بخصوص الآثار المترتبة على قرار المجلس الدستوري :

  • اذا كان قرار المجلس الدستوري بان النص التشريعي المطعون فيه غير دستوري فانه يقرر إلغاءه و زواله نهائيا من النظام القانوني الفرنسي ، و يكتسب القرار حجة مطلقة في مواجهة العامة اي انه لا يسري فقط على طرفي النزاع.
  • اما اذا كان القرار يقضي بأن النص يتفق مع الدستور فانه يحتفظ بمكانه في النظام القانوني الفرنسي ، ويجب على القضاء تطبيقه ،  الا اذا رأى القاضي ان هذا النص لا يتفق مع قوانين الاتحاد الأوربي او المعاهدات الدولية التي تكون فرنسا طرفا فيها عندئذ سيمارس القاضي اختصاصه في فحص ملائمة القوانين للمعاهدات - وهو ما اشرنا اليه في المقدمة - 

 

المبحث الثاني : تقدير هذه الرقابة وأثرها في النظام القانوني الفرنسي

المشكلة الرئيسية التي تثار امام التطبيق العملي لـــــ الرقابة اللاحقة او  "مسألة الاولوية الدستورية" التي يفرضها القانون التنظيمي في 10-12-2009 هي  أولوية النظر في دستورية القوانين فهذه الأولوية الدستورية انما سُميت كذلك لسببين[26] : (الاول) ان الطعن المقدم وفق احكام هذا القانون له الأولوية على غيره ، فعلى القاضي فورا التوقف عن كل إجراءات الدعوى الأخرى وحسم هذا الطعن بقبوله او رده وفق ما فصلنا . (الثاني وهو الاهم) أن هذا القانون يفرض على القاضي النظر اولا في مطابقة القانون للدستور الفرنسي  قبل نظره في مطابقة القانون للمعاهدات او قوانين الاتحاد الأوربي[27].

 و هذا يجعل القاضي الوطني الفرنسي بين: تنفيذ القانون الوطني الذي يفرض عليه أولوية النظر في ملائمة القانون للدستور او تنفيذ قانون الاتحاد الأوربي الذي يفرض عليه ملائمة القانون لقوانين الاتحاد الأوربي علما ان قرارات محكمة العدل الاوربية  تمنع قضاة الدول الاعضاء من تطبيق اي اجراء يعيق تنفيذ قوانين الاتحاد الاوربي باعتبار ان لها العلوية على القوانين الوطنية[28].

هذا المشكلة  تجلت بشكل عملي حينما نظرت محكمة النقض الفرنسية في الطعن المقدم في قرار الإبعاد المتخذ ضد شخصين يحملان الجنسية الجزائرية قامت السلطات الفرنسية بتفتيش وثائقهم عند الحدود الفرنسية - البلجيكية و لكونهما لا يحملان وثائق إقامة رسمية في منطقة الاتحاد الأوربي (schengen) قررت السلطات الفرنسية المختصة في 23 آذار 2010 احتجازهم بهدف إبعادهم الى الحدود[29].

 و قد قـــدم الجزائريان طعنا الى المحكمة يتضمن : ان إجراء تفتيش وثائق الإقامة عند الحدود بين دولتين عضوين في الاتحاد الأوربي هو انتهاك لمبدأ حرية التنقل المكفول بموجب (المادة 67 الفقرة 2 من معاهدة انتظام عمل الاتحاد الأوربي[30])  ، و في ذلك انتهاك لنص المادة 81-1 من الدستور الفرنسي التي تؤكد مبدأ مشاركة فرنسا لدول الاتحاد الأوربي[31] ،  و امام هذا الطعن يتوجب على محكمة النقض استنادا الى قانون 10-12-2009 التنظيمي ان تنظر في النص المطعون في دستوريته اولا من خلال احالته الى المجلس الدستوري ان ثبتت جديته ، لكن و من جانب اخر فأن قانون الاتحاد الأوربي الذي له العلوية على هذا القانون التنظيمي يلزم المحكمة بالنظر في ملائمة النص للقانون الأوربي ؟   و امام هذه الاشكاليه أحالت محكمة النقض الفرنسية في 16 نيسان 2010 هذا الامر الى محكمة العدل الأوربية لسؤالها : هل ان (مسألة الأولوية الدستورية) التي يفرضها قانون 10-12-2009 التنظيمي الصادر استنادا إلى المادة 61-1 من الدستور الفرنسي يتطابق مع مبدأ علوية قانون الاتحاد الأوربي ؟

و في 22 حزيران 2010 جاء ردّ محكمة العدل الأوربيــة[32] : إن أولوية النظر في دستورية القوانين التي ينص عليها هذا القانون و يفرضها على المحكمة لا تتعارض مع القانون الأوربي مادامت الهيئات القضائية الفرنسية الأخرى حرة وفي كل وقت بالرقابة على ملائمة القوانين الوطنية لقوانين الاتحاد الأوربي و تطبيق كل الإجراءات القضائية التي تحمي قوانين الاتحاد[33].

و بذلك تظهر دقة المشرع الفرنسي حينما اختار مفردة ( أولوية) التي تعني عدم اهمال انواع الرقابة الاخرى ، ما يعني وجود اكثر من شبكة امان للرقابة على التشريعات الوطنية[34].

 و بعد ازالة هذا الاشكال طبقت المحاكم الفرنسية دورها القانوني في نظام الإحالة اللاحقة للمجلس الدستوري الذي مارس و لأول مرة رقابته اللاحقة على القوانين[35] .

وبالرغم من ان الرقابة اللاحقة تتميز بإجراءات معقدة وطويلة نسبيا حيث يستغرق الطعن قرابة الستة أشهر للبت فيه فضلا عن كونه يهدد استقرار المعاملات في المجتمع كونه يعرض  القوانين الى الالغاء بعد تطبيقها الا اننا لا يمكننا اغفال الفوائد الكبيرة لهذه الرقابة من حيث مساهمتها في فسح المجال واسعا لتنظيف النظام القانوني الفرنسي من القوانين الغير دستورية خصوصا اذا علمنا أن نظام (الرقابة السابقة) كان جزئيا و قد مارسه المجلس الدستوري على 10- 15% فقط من القوانين المشرعة اما باقي القوانين فلم يتم تمحيصها دستوريا ، من جانب اخر  فان نقاط الضعف في القانون غالبا ما تظهر بعد تطبيق القانون وليس عند تشريعه وبذلك سوف يتمكن الافراد من الطعن في القوانين و معرفة عيوبها التي ستبرز من خلال التطبيق العملي للقانون ،  فضلا عن ان الوقت المحدد للطعن في القوانين في ضل نظام الرقابة السابقة ، اي بعد التشريع القانون وقبل اصداره ، قصير جدا و ربما لا يعطي المجال واسعا لدراسة القانون من كافة جوانبه اما في الرقابة اللاحقة فان الطعن سيكون بهدوء اكبر و وذا دوافع قانونية افرزتها ضرورات التطبيق بعيدا عن تأثيرات الرأي العام التي تترافق غالبا مع تشريع القانون [36].

و بذلك نلاحظ الاثر الكبير الذي احدثه هذا التعديل الدستوري على منظومة الرقابة الدستورية في فرنسا ، و يبدو واضحا الدور المؤثر الذي يمارسه القضاء في هذه الرقابة ، و يمكننا القول ان فرنسا وفقا لهذا التعديل صارت اقرب الى النموذج الأوربي او ما يسمى (نموذج كلسن) الذي يمارس فيه القاضي دور القناة لنقل الطعن الى هيئة دستورية مختصة و هو بذلك يختلف عن  النموذج الأمريكي الذي يمارس القاضي فيه الرقابة بشكل مباشر.

 لكن القول بأن القاضي يؤدي دور القناة لنقل الطعن لا يؤدي باي حال من الاحوال الى الاعتقاد بضعف دور القضاء في ممارسة الرقابة الدستورية في فرنسا  فهو دور هام و مؤثر بل ان بعض الدستوريين[37]  يذهب الى ان محكمة النقض باتت تمارس دور المجلس الدستوري من خلال الصلاحية الممنوحة للقضاة برفض احالة القانون المطعون فيه الى المجلس الدستوري مستفيدين من كون قراراتهم نهائيه و غير قابله للطعن ، و خير مثال على ذلك قرار محكمة النقض في 7 ايار 2010 حول قانون غيسو[38] (Loi Gayssot) الذي يُجرم  ( إنكار) وجود أو حجم الجرائم ضد الإنسانية ، وقد عرف ميثاق لندن 1945  هذه الجرائم في مادته التاسعة  و ابرزها )الهولوكوست) و وجود غرف الغاز في معسكرات الاعتقال النازية ضد اليهود ،  و عندما تم الطعن في هذا القانون على اعتبار انه انتهاك لحرية الاعتقاد و التعبير المكفولة دستوريا فمن حق الانسان ان يمارس حقه في التعبير عن ارائه فينكر مثلا بعض هذه الجرائم او يعتبر ان حجمها مبالغ فيه  ، الا ان محكمة النقض رفضت احالة هذا الطعن الى المجلس الدستوري بحجة انه يفتقر الى الجدّية.

إن دراسة  متأملة للدور الذي يمارسه المجلس الدستوري في، الرقابه على دستورية القوانين، تُظهر بوضوح عدم دقة الآراء التي تصنف الرقابة في فرنسا على انها (رقابة سياسية) وايا كانت المبررات التي تُساق لتبرير ذلك فأنها أضحت لا تصمد امام التطور الدستوري الكبير الذي طرأ على مؤسسة المجلس الدستوري  منذ تأسيسه عام 1958 والى اليوم.

ونستطيع ان نناقش الحجج التي قد يوردها القائلين بان نموذج الرقابة في فرنسا هي مصداق (للرقابة السياسية) من جانبين : يتعلق الاول بطبيعة الجهة التي تقدم الطعن و الثاني بطبيعة اعضاء الجهة التي تمارس الرقابة. 

 فمن ناحية الجهة التي يحق لها حق الطعن في القوانين، كان النقد الذي يوجه هو اقتصار طلب انعقاد المجلس الدستوري و احالة القوانين على (رئيس الجمهورية و رئيس الوزراء و رئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ) و بالتالي فان إحالة القوانين للرقابة من عدمه يتم لدوافع سياسية بفرض امكانية انتماء هذه الشخصيات لتكتل سياسي واحد.  هذا الاشكال تكفل بمعالجته التعديل الدستوري لعام 1974 الذي سمح لــ 60 عضو من اعضاء الجمعية الوطنية  او 60 عضو من اعضاء مجلس الشيوخ، بتقديم الطعن امام المجلس الدستوري وبذلك تم فسح المجال للمعارضة البرلمانية لتأخذ دورها في احالة القوانين ،  واليوم وبعد اضافة المادة 61-1 الى الدستور بموجب تعديل 23 تموز 2008 فلم يبق اي اثر لهذا النقد بعد فسح المجال واسعا للأفراد لممارسة الطعن امام القضاء.

اما بخصوص تسمية اعضاء المجلس الدستوري من قبل سلطة سياسية : رئيس الجمهورية (3 أعضاء) و رئيس الجمعية الوطنية (3 أعضاء) ورئيس مجلس الشيوخ (3 أعضاء)  و امكانية تأثير ذلك على استقلالية ارائهم بزعم انهم غير مستقلين فهي حجة مردودة ايضا لان تسمية اعضاء المجلس الدستوري من قبل سلطة سياسية لا يعني مطلقا التأثير على طبيعة عمل المجلس و اذا كان الامر كذلك فأن اختيار قضاة المحكمة العليا في الولايات المتحدة الامريكية  يتم ايضا من قبل سلطة سياسية تتمثل في رئيس الولايات المتحدة الأمريكية فهل يدل ذلك على تأثير سياسي على قضاة هذه المحكمة[39] ؟ 

اما ما يتعلق بطبيعة أعضاء المجلس الدستوري و نعتهم بالسياسيين لان الدستور لم يشترط ان يكونوا من القضاة  واعتبار ذلك مؤشرا على كون هذه الرقابة سياسية حصر الطبيعة القضائية للرقابة عند ممارستها من قبل القضاة  فقط ليس من المبادئ المُسلم بها في  الفقه الدستوري اذ لا يوجد تلازم بين طبيعة الاعضاء و نوع الرقابة التي يمارسونها  فالرقابة تكون قضائية متى ما اُتخذت الاجراءات المتبعة في اصدار القرارات طابعا قضائيا ، حيث توصف الرقابة بالقضائية بلحاظ العمل الذي تمارسه الهيئة او المحكمة و ليس بلحاظ طبيعة اعضائها"[40] .

فما هو الإشكال اذا مورست الرقابة من الفقهاء القانونين او الاساتذة الجامعيين المتخصصين بالقانون او كبار المحامين الدستوريين الخ ؟ و اذا كان تصنيف نوع الرقابة يتم بلحاظ اعضاء الهيئة التي تمارسه فكيف وصف الدستور العراقي مثلا المحكمة الاتحادية العليا بانها هيئه قضائية (الفقرة 1 من المادة 92) في حين انها تتكون من القضاة وخبراء الفقة الاسلامي و فقهاء القانون (الفقرة 2 من المادة 92) فما هو نوع هذه الرقابة  هل هي (قضائية او قانونية او  إسلامية ؟) .

اذن لا يوجد تلازم بين طبيعة الاعضاء و نوع الرقابة التي يمارسونها  فالرقابة تكون قضائية متى ما اُتخذت الاجراءات المتبعة في اصدار القرارات طابعا قضائيا من حيث تبادل اللوائح و الادلة بين طرفي الدعوى و طابع الجلسات التي تتميز بالردّ والرد المقابل فضلا عن تسبيب القرارات و استيفاءها للحجج والبراهين القانونية.  

وعند امعان النظر في طبيعة العمل الذي يمارسه الان المجلس الدستوري الفرنسي نجد ان الاجراءات المتبعة امامه ذات منحى قضائي بل ان اعضاء المجلس الدستوري يتم تسميتهم بــــ (القضاة الدستوريين)  وجرت العادة ان يكونوا جميعا من الاشخاص الذي لهم خلفيات قانونية متميزة وعند امعان النظر في طبيعة اعضاء المجلس الدستوري الحاليين نجــــــــد[41] :

  •  الاعضاء بحكم القانون اي مدى الحياة هم ثلاثة فقط : الرؤساء السابقين جيسكار و شيراك[42] و ساركوزي  .
  • الاعضاء التسعة الاخرين، وبينهم امرأتان، جميعهم من الخبرات القانونية و الادراية المخضرمه :
  • 3 قضاة
  • 2 مستشارين قانونين تقلدوا وظائف حكومية مهمة
  • 2 من السياسين (1. من تيار اليمين 2. من تيار اليسار) لا يمارسون الان اي عمل سياسي و يحملون شهادات اكاديمية في  القانون.
  • 1 دكتوراه في القانون العام مارس التدريس في الجامعات الفرنسية.
  • 1 موظفه حكومية تحمل الماجستير في القانون مع خبرة ادارية واسعة .

و حقيقة الأمر ان وصف الرقابة الدستورية في فرنسا بالسياسية الى يومنا هذا امر نجده في بعض المصنفات العربية فقط و ربما يعُزى ذلك الى عدم مواكبة التطورات الدستورية الكبيرة في فرنسا خصوصا التعديل الدستوري الاخير في 2008 ، و ربما مازال من ينادي بذلك اسيرا  للفلسفة القانونية التي كانت(سابقا) سائدة في فرنسا و التي ترفض اي شكل من أشكال الرقابة الدستورية (السلطة القضائية) على الإرادة العامة التي يمثلها البرلمان (السلطة السياسية) على اعتبار انها مقدسة ولا يجوز للقضاء المساس بها ، لكن هذا الأمر لم يعد مقبولا و لم تبق اي قدسية للقوانين او السلطة السياسية خصوصا بعد القرار الذي نستطيع ان ننعته بالتاريخي للمجلس الدستوري الفرنسي في 8 /8/1985 الذي نص على ان : "القانون يعبر عن الإرادة العامة فقط عندما يحترم الدستور"  لذلك نجد ان التصنيف الذي يقوم على اعتبار الرقابة في فرنسا رقابة سياسية في قبال الرقابة القضائية (النموذج الأمريكي)  لم يعد مقبولا وان الرقابة في فرنسا باتت اقرب إلى النموذج الأوربي الذي ينيط الرقابة بهيئة مركزية متخصصة ذات طبيعة قضائية  يمارس القضاء العادي فيها دور الناقل و (المصفاة ).

 

 

الخاتمــــــــــــــــــــــــــــة:

تعديل 23 تموز الدستوري 2008 هو نقطة التحول الأكثر أهمية في مسار الرقابة على دستورية القوانين في فرنسا و الذي ادخلها عهد الرقابة اللاحقة  و ايّد ان التطور الدستوري السمّة الأبرز التي لازمت دستور الجمهورية الخامسة.

هذا التعديل وان لم يمس مؤسسة المجلس الدستوري من حيث انها صاحبة الاختصاص في النظر بدستورية القوانين الا انه غير مسار الاحالة الى هذا المجلس بفسح المجال امام الرقابة اللاحقة ،  وقد برز اثر هذا التعديل جليا في ثلاث مجالات : الاول على منظومة التشريع الفرنسية و الثاني على دور القضاء في ممارسة الرقابة و الثالث في حماية حقوق الأفراد .

تطبيق هذه الرقابة سمح بإعادة النظر في دستورية العديد من القوانين وبما سيساهم بشكل أكيد في تنقية منظومة التشريع الفرنسي من القوانين الغير دستورية والتي أفلتت من قبضة الرقابة السابقة ،هذه التصفية للمنظومة التشريعية الفرنسية ستتم وفق آلية الأولوية الدستورية التي تعيد اعتبار سيادة التشريع الوطني على التشريعات الأوربية وان لم تلغ الأخير.

اما بالنسبة الى دور القضاء فقد منحت  هذه التعديلات دورا مؤثرا  للقضاء الفرنسي سواء العادي او الادراي من حيث السماح له بمراقبة دستورية القوانين و النظر في هذه الطعون ، بل ان القضاء اصبح له القول الفصل في عدم احالة هذه القوانين الى المجلس الدستوري و يكون قراره في ذلك نهائيا . وبذلك بدأ القضاء يأخذ تدريجيا مكان المجلس الدستوري في تقدير عدم جدية الطعون .

كما أصبح للإفراد العديد من الضمانات  التي تحول دون انتهاك الحقوق والحريات والحفاظ عليها و صار من حق الافراد الطعن مباشرة امام القضاء في ما يعتقدون انه ينتهك حقوقهم او حرياتهم .

بعد هذه التطورات بات من غير المجدي نعت الرقابة الدستورية في فرنسا بأنها سياسية وثبت انه تصنيف لا يصمد امام التحولات الكبيرة و الجذرية المتسارعة التي شهدتها بنية هذا الدستور وبذلك يمكننا القول ان هذا التعديل فتح الباب واسعا لأسس صحيحة تبنى عليها دولة سيادة القانون.

 

 

المصــــادر

 

  1. الكتب و المحاضرات
  1. FERDINAND, Mélin-Soucramanien. La constitution de la République française :  texte intégral. Dalloze , Italie 2009
  2. TURPIN, Dominique. Droit constitutionnel .PUF paris 2007
  3. MICHEL, Verpeaux . Annales droit constitutionnel : méthodologie. Dalloze, France septembre 2010
  4. CROISAT, Mauric. Le fédéralisme dans le démocraties contemporaines. Montchrestien, Paris 1999
  5. ELISABETH BAUDOIN, Marie. Droit constitutionnel approfondi- (Cours) Master  , 2010-2011. Université d'Auvergne
  6. ELISABETH BAUDOIN, Marie. Philosophie juridique et politique. (Cours) Master  , 2009-2010. Université d'Auvergne
  7.   FAVOREU, Louis. Droit constitutionnel. Dalloze paris 2010

 

 

  1. الدساتير و القوانين
  1. الدستور الفرنسي لعام 1958
  2. القانون التنظيمي في 10-12-2009
  3. القرار التنظيمي في 7-11-1958

 

  1. المواقع الالكترونية
  1. الموقع الرسمي للمجلس الدستوري الفرنسي:  http://www.conseil-constitutionnel.fr
  2. الموقع الرسمي لمحكمة النقض الفرنسية http://www.courdecassation.fr/
  3. الموقع الرسمي لمجلس الدولة الفرنسي http://www.conseil-etat.fr/
  4. الموقع الرسمي لمحكمة العدل الدولية http://curia.europa.eu/
  5. الموقع الرسمي لصحيفة اللموند الفرنسية http://combatsdroitshomme.blog.lemonde.fr
  6. الموقع الحكومي الرسمي للتشريعات الوطنية الفرنسية  http://www.legifrance.gouv.fr/affichTexte.do?cidTexte=JORFTEXT000021446446&categorieLien=id

 

 

 

  

 

 

 


  (Edouard Balladur) [1]السياسي الفرنسي ذا الخبرة القانونية الواسعة و عضو مجلس الدولة الفرنسي، شغل العديد من المناصب ابرزها: السكرتير العام لرئاسة الجمهورية  1973 - 1974 ، وزير دولة ، وزيرا للاقتصاد و المالية والخصخصة في حكومة شيراك 1986 -1988 ، رئيس الوزراء 1993-1995  ، مرشح رئاسة الجمهورية في انتخابات 1995.  

[2] تم هذا الاعلان بتاريخ 21 تموز 2008 تلته مصادقة رئيس الجمهورية.

[3] حول فلسفة التطور الدستوري المستمر في دستور الجمهورية الخامسة و مبرراته انظر: ماري اليزابيث بدوا ،  محاضرات "القانون الدستوري المعمق "  الــــقتها على طلبة الماجستير في كلية الحقوق - جامعة اوفيرن الفرنسية  2010-2011.

(Les mutations du Droit Constitutionnelle sous la veme Republique

[4] لمراجعة مجمل هذه التعديلات انظر :

FERDINAND, Mélin-Soucramanien. La constitution de la République française. p XVII

[5] حاول الرئيس الفرنسي ميتران عدة محاولات لإدخال تعديل دستوري يسمح برقابة لاحقة على القوانين في الفترة (1989-1993) لكن مساعيه لم تكلل بالنجاح

[6] انظر التنظيم الدستوري لأحكام هذا المجلس في المواد 56-63

[7] يمارس المجلس الدستوري العديد من الصلاحيات الدستورية أبرزها بعد الرقابة على دستورية القوانين  :

  • الفصل في المنازعات الانتخابية
  • ضمان الفصل التشريعي بين القوانين التي يعد تشريعها من واجبات البرلمان و التعليمات التي تصدرها الحكومة بقوانين تنظيمية.

[8] لتفصيل اكثر انظر : FAVOREU, Louis. Droit constitutionnel. p172

[9] انظر المادة 61 من الدستور الفرنسي لعام 1958

[10] انظر المادة 61 من الدستور الفرنسي لعام 1958

[11] انظر المادة 61 من الدستور الفرنسي لعام 1958

[12] لتفصيل أكثر حول مكانه المعاهدات في النظام القانوني الفرنسي انظر: TURPIN, Dominique. Droit constitution. p 146

   [13] انظر المادة 61 من الدستور الفرنسي لعام 1958

[14] انظر نص المادة 61 من الدستور الفرنسي لعام 1958

[15] لتفصيل اكثر انظر :.  p 206.MICHEL, Verpeaux . Annales droit constitutionnel

[16] للاطلاع على النص القانوني كاملا انظر : الموقع الالكتروني الحكومي للتشريعات الرسمية

http://www.legifrance.gouv.fr/affichTexte.do?cidTexte=JORFTEXT000021446446&categorieLien=id

 

[17] لمزيد من التفاصيل حول الجوانب الاصلاحية في هذا التعديل وقانون 10-12-2009 انظر مقال المحامي هنري فلوشيه

http://www.legavox.fr/blog/maitre-henry-flecher/organique-decembre-2009-date-pour-1402.htm

 

[18] و قد اشرنا الى ان  هذه النصوص ذات صفة تنظيمية ويمكن ان تصدر من السلطة التنفيذية – الحكومة- ايضا.

[19] كاليدونيا الجديدة بالفرنسية:( Nouvelle-Calédonie)  هي إقليم تابع لفرنسا يقع في أوقيانوسيا. استقر فيها البريطانيين والفرنسيين أثناء النصف الأول من القرن التاسع عشر، وامتلكتها فرنسا في 1853  ، يبلغ عدد سكانها 219246 و مساحتها  485كم2 ،  عاصمتها نوميا.

  [20]انظر النشرة التوضيحية التي أصدرها المجلس الدستوري لأحكام "مسألة الأولوية الدستورية" (QPC) و المنشورة على الموقع الرسمي للمجلس : http://www.conseil-constitutionnel.fr

[21] انظر : النشرة التوضيحية التي أصدرها المجلس الدستوري لأحكام "مسألة الأولوية الدستورية" (QPC) و المنشورة على الموقع الرسمي للمجلس : http://www.conseil-constitutionnel.fr

[22] اعلن الرئيس شيراك عن مشروع الميثاق البيئي في حملته الانتخابية الثانية عام 2004 . استغرق العمل لانجاز هذا المشروع اربع سنين واعُد من قبل لجنة كوبنز التي ترأسها البروفيسور الفرنسي كوبنز.

[23] انظر FAVOREU, Louis. Droit constitutionnel. p170

[24] محكمة النقض يقابلها في التنظيم القضائي العراقي محكمة التمييز

[25] لتفصيل اكثر انظر : Pierre Esplugas, maître de conférences, Université Toulouse 1 capitole. Ve République : la hiérarchie des normes. P. 207

[26]  انظر. . p 338 FAVOREU, Louis. Droit constitutionnel

[27] البروفيسور ( Baudoin) تشير الى وجود نتيجتين متوازيتين لظاهرة العولمة :

- عبور النظم القانونية الوطنية

- ضعف مبدأ السيادة الوطنية

وفي ذلك اشارة الى علو و نفوذ القوانين الاوربية في قبال القوانين الوطنية و ما يثيره من تساؤل حول مصير مبدأ السيادة . لتفصيل اكثر انظر: محاضرات فلسفة القضاء و السياسية ، القتها على طلبة الماجستير في كلية الحقوق –جامعة اوفيرن (محاضرات مطبوعة)

[28]  انظر قرار محكمة العدل الأوربية المُتخذ في التاسع من آذار 1978 و القاضي بمنع كل الإجراءات التي تعيق تطبيق قوانين الاتحاد الأوربي.

[29] للاطلاع على كامل تفاصيل القضية انظر( نضال من اجل حقوق الانسان) صحيفة اللومونــد –العالم- الفرنسية بتاريخ 22-6-2010 . انظر الموقع الالكتروني  http://combatsdroitshomme.blog.lemonde.fr /

 

 

[30] تنص هذه الفقرة على ضمان عدم تفتيش الاشخاص في الحدود الدولية التابعة للدول الاعضاء. انظر نص المعاهدة كاملا في الجريدة الرسمية للاتحاد الأوربي الطبعة الفرنسية المرقمة C 115/47 بتاريخ 9.5.2008 (VERSION CONSOLIDÉE DU TRAITÉ SUR LE FONCTIONNEMENT DE L'UNION EUROPÉENNE).

[31] انظر نص المادة 81-1 من الدستور الفرنس لعام 1958

[32] تضمن الرد في الشق الثاني عدم قانونية الاجراء المتخذ بحق الجزائريين الذين احتجزتهم السلطات الفرنسية حيث تمنع قوانين الاتحاد الاوربي تفتيش الوثائق على بعد 20 كم من طرفي حدود الدول الاعضاء. لتفصيل اكثر انظر: http://combatsdroitshomme.blog.lemonde.fr

[33] انظر . p 341 FAVOREU, Louis. Droit constitutionnel

[34] محاضرة القاها البروفيسور Turpin  في  استاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق جامعة اوفيرن الفرنسية – تقرير الباحث

[35] تم تقديم العديد من الطعون الى المحاكم الفرنسية استنادا الى هذا القانون ، و احدث القرارات المتخذة استنادا الى هذا النوع من الرقابة قرار المجلس الدستوري الفرنسي المتخذ بتاريخ 4-5-2012 بعدم دستورية المادة 222-33 من قانون العقوبات المتعلقة بتجريم التحرش الجنسي معتبرا ان هذا النص يفتقر الى التحديد .

[36] لتفصيل اكثر انظر : Pierre Esplugas, maître de conférences, Université Toulouse 1 capitole. Ve République : la hiérarchie des normes. P. 209

[37] انظر :

. p 341 FAVOREU, Louis. Droit constitutionnel-

-Pierre Esplugas, maître de conférences, Université Toulouse 1 capitole. Ve République : la hiérarchie des normes. P. 211

[38] قانون غيسو: هو قانون اعتمد ه البرلمان الفرنسي في 13  تموز  1990، بناءا على اقتراح النائب الشيوعي جان كلود غيسو. و يعد واحداً من عدة قوانين أوروبية تجرم إنكار الهولوكوست . و يعتبر البروفيسور روبير فوريسون أستاذ الأدب الفرنسي بجامعة ليون من اوائل من تعرض للمحاكمة بموجب هذا القانون حيث تم تغريمه وفصله من الجامعة لأنه يعتبر من ابرز منكري قصة الهولوكوست و وجود غرف الغاز في معسكرات الاعتقال النازية.

[39] محاضرة للبروفيسور Turpin  استاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق جامعة اوفيرن الفرنسية على طلبة الدكتوراة 2011- تقرير الباحث.

[40] اليزابيث بدوا .استاذة القانون الدستوري المعمق في كلية الحقوق جامعة اوفيرن –كلير مونت فيرون 1 . مقابلة شخصية للباحث بتاريخ 9-7-2012 . 

[41] للاطلاع على كامل السير الذاتية لأعضاء المجلس الدستوري انظر الموقع الالكتروني الرسمي للمجلس الدستوري الفرنسي:

http://www.conseil-constitutionnel.fr

 

[42] نشرت محطة  التلفزيون الفرنسي الاولى  (TFI) ان الرئيس السابق جاك شيراك ارجع راتبه الشهري الذي يتقاضاه من المجلس الدستوري الفرنسي  منذ شهر ايلول 2011 لانه لا يتمكن من حضور جلسات المجلس لتدهور حالته الصحية .