بقلم : المستشار ماهر سامي

نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا

 

استقلال القضاء ، وحرية الصحافة ، هما من الضمانات الدستورية التى يكفلها الدستور ، وهما  معاً ــ  من أوثقها ارتباطاً ، وأشدها التصاقاً ، بحقوق الإنسان ، وفي رحابهما معاً  ــ  ينشد المواطن ملاذاً آمناً يوفر له العدل والحماية والسلامة ، ويرد عنه الظلم والقهر والعدوان ، وتكتمل له ــ فى ظلها ــ مقومات آدميته. وقد نظم الدستور عمل السلطتين  ــ  السلطة القضائية وسلطة الصحاف ـ ضمن نصوصه التى أوردها فى هذا الشأن ، فنص على أن سيادة القانون أساس الحكم فى الدولة ، وأن استقلال القضاء وحصانته ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات ، وأن السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها ، وتصدر أحكامها وفق القانون ،   وأن القضاة مستقلون ولا سلطان عليهم فى قضائهم لغير القانون ، ولا يجوز لأى سلطة التدخل فى القضايا أو فى شئون العدالة . وبالنسبة للصحافة فقد نص الدستور على أن حرية الرأى مكفولة ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير فى حدود القانون ، وأن حرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام مكفولة ، وأن الصحافة سلطة شعبية مستقلة تمارس رسالتها على الوجه المبين فى الدستور والقانون ، وأن الصحافة تمارس رسالتها بحرية وفى استقلال فى خدمة المجتمع بمختلف وسائل التعبير ، تعبيراً عن اتجاهات الرأى العام وإسهاماً فى تكوينه وتوجيهه ، فى إطار المقومات الأساسية للمجتمع والحفاظ على الحريات والحقوق والواجبات العامة ، واحترام حرمة الحياة الخاصة للمواطنين ، وذلك كله طبقاً للدستور والقانون ، وأن للصحفيين حق الحصول على الأنباء والمعلومات طبقاً للأوضاع التى يحددها القانون ولا سلطان عليهم فى عملهم لغير القانون. السؤال الذي نطرحه هنا هو : ماهى التخوم الفاصلة والحدود المانعة التى تحول دون تجاوز أى من السلطتين لنطاق عملها ، وبعبارة أخرى كيف يمارس الإعلام مهمته وفقاً للضوابط والمعايير التى حددها الدستور وألزم القانون بها فى هذا المجال. مناسبة الحديث فى هذا الموضوع هو ما لجأ إليه جانب من الإعلام من نهج صادم وغير مسبوق فى تناوله لبعض القضايا الأخيرة سواء أثناء تداولها أمام المحاكم فى مختلف درجات التقاضى أو بعد الفصل فيها بأحكام باتة ، وهى القضايا التى أطلق عليها الإعلام وصف " قضايا رأى عام " ، فلم يقتصر النشر فيها على وقائع القضية أو تحقيقات النيابة أو ما سجلته محاضر جلسات المحاكمة من أقوال الشهود وتقارير الخبراء والمرافعات حتى الفصل فيها بحكم قضائى بل تعدى حدود النشر إلى عقد جلسات موازية أفردت لها الصفحات واتسعت أمامها برامج الحوار أشبه ما تكون بمحاكم موازية على نسق تلك المجالس الموازية التى يشكلها البعض فى النقابات والاتحادات والجمعيات فى مواجهة المجالس الشرعية ، وأباح الإعلام لنفسه فى جلسات هذه المحاكمة الموازية أن يواجه المتهمين بالاتهامات المنسوبة إليهم ، ويحقق دفاعهم ، وينتقل إلى مكان الحادث لاجراء المعاينة التصويرية ، ويستمع إلى شهود النفى ، ويزن أدلة الثبوت ، بل وأحياناً يندب الخبراء يستطلع آراءهم ، ويعرض لمرافعات الدفاع ، وقد يسبق بعدها إلى إصدار أحكام بالإدانة أو البراءة قبل أن تقول المحكمة كلمتها ، وأحياناً يتم ذلك كله بعد أن تكون المحكمة قد فصلت فى القضية بحكم بات أو قابل للطعن ويجئ حكم الإعلام على نحو مخالف.  نحن ندق ناقوس خطر محدق ينذر بعواقب مفزعة وخيمة يتهدد استقلال القضاء فى مصر ويعصف بكل قيم العدل ، وينتهك الدستور والقانون ، ويهدر ضمانات التقاضى ، ويؤثر على تشكيل الوجدان الجمعى للمواطنين فى إيمانهم بنزاهة القضاء المصرى                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                     

ان استقلال القضاء وحصانة القضاة لايمنح قدسية للقاضى ولا يختصه بتمييز شخصه وحماية ذاته عن باقى عباد الله ، ولكن القدسية والحصانة والامتياز والحماية هى لعمل القاضى وحده الذى يتوسل به لتحقيق العدل بين الناس ، فإذا استبيحت هذه الضمانات اهتزت ثقة المواطن فى القضاء وزايله الأحساس بطهارته ، وفقد الأمل فى أن يجد النصفة لديه ، ويحصل على الترضية القضائيةوفضلاً عن هذه الآثار المدمرة التى يمكن أن تنجم عن السعى بغير وعى أو بقصد ابتغاء الظفر بسبق صحفى أو إشباع فضول نهم لأخبار مثيرة ، فإن قانون العقوبات يؤثم هذا النوع من الإعلام باعتباره ينطوى على أفعال محظورة معاقب عليها بالحبس والغرامة إذا نشر أمورا من شأنها التأثير فى القضاة الذين يناط بهم الفضل فى دعوى مطروحة أمام أى جهة من جهات القضاء فى البلاد ، أو رجال القضاء أو النيابة أو غيرهم من الموظفين المكلفين بالتحقيق أو التأثير فى الشهود الذين قد يطلبون لأداء الشهادة فى تلك الدعوى أو فى ذلك التحقيق أو أموراً من شأنها منع شخص من الإفضاء بمعلومات لأولى الأمر أوالتأثير فى الرأى العام لمصلحة طرف فى الدعوى أو التحقيق أو ضده.   لقد بلغ انتهاك القانون والاستخفاف به أقصى مداه عندما نشرت إحدى الصحف ما زعمت أنه نقلاً لما دار من مداولات سرية فى إحدى القضايا المنظورة أمام إحدى المحاكم وحددت عدد أصوات المؤيدين والمعارضين للحكم المعروض ، وهو مسلك يشى بشهوة النشر التى ضحت بكل القيم الأخلاقية فضلاً عن مخالفة لحكم القانون الذى يعاقب بالحبس والغرامة كل من نشر ما جرى فى المداولات السرية بالمحاكم أو نشر بغير أمانة وبسوء قصد ما جرى فى الجلسات العلنية. والقانون عندما اعتبر إهانة المحاكم ، والإخلال بمقام قاض أو هيبته أو سلطته فى صدد دعوى فعلاً مؤثماً يعاقب مرتكبه بالحبس والغرامة ، فإنه لم يقصد إلى حماية شخص القاضى بحسبانه من أهل الحظوة والمعاملة المتميزة عن سائر المواطنين ، فالقاضى بشر يخطئ ويصيب ويخضع كالباقين لسيف القانون الذى يجرى فوق كل الرؤوس ، ولكن هذه الحماية الخاصة عمد إليها المشرع لما يمثله القاضى من قيمة العدل التى يعمل على إعلائها وتكريسها فى المجتمع فحصانته التى أولاه القانون إياها تمنع التدخل في أعماله وتضمن استقلاله وحيدته ، ولكنها  ــ  أبدا  ــ  لا تحمى القاضى من عثراته. فإذا كانت حرية الصحافة هى السياج لحرية الرأى والفكر ، فإنه لا يجوز التدخل فى شئونها أو إرهاقها بقيود ترد رسالتها على أعقابها على نحو ما رددته المحكمة الدستورية العليا فى أحكامها ، فقد استقر قضاؤها أيضاً على أن مبدأ الشرعية وسيادة القانون يوجب خضوع جميع سلطات الدولة للقانون والتزام حدوده فى جميع أعمالها وتصرفاتها ، كما وأن استقلال القضاء هو المدخل لسيادة القانون فهو الذى يصون للشرعية بنيانها  ــ ذلك أن استقلال السلطة القضائية تعنى أن تعمل بعيداً عن أشكال التأثير الخارجى التى توهن عزائم رجالها ، فيميلون عن الحق ، إغواء أو إرغاماً ، أو ترغيباً أو ترهيباً بما ينافى ضمانة التجرد عند الفصل فى الخصومة القضائية ، ولحقيقة أن العمل القضائى لا يجوز أن يثير ظلالا قاتمة حول حيدته ، فلا يطمئن إليه متقاضون داخلتهم الريبة فيه بعد أن صار نائياً عن القيم الرفيعة القضائية اننا نتطلع إلى أوبة سريعة آمنة من الإعلام لفضيلة الحق ــ وهو أهل لها ــ  يكرس فيها نضاله لحماية الحقوق والحريات ، ودفاعه عن استقلال القضاء ، لما فيه خيرالمواطنين،واحترام سيادةالقانون