القاضي مدحت المحمود

للقضاء في العراق تأريخ طويل يمتد الى اكثر من اربعة الاف سنة والشاخص على اصالته مسلة حمورابي التي ارتفعت سنة (2100) قبل الميلاد تعلن نصوصها للعدالة لكل الناس وتوكل تحقيقها الى رئيس الدولة البابلية حمورابي الملك السادس من الاسرة الامورية ,التي حكمت العراق حيث يعلن هذا الملك ... انا حمورابي الذي يخشى الاله ويعمل على جعل العدالة تعم البلاد وتحطيم الاثم والشرير حتى لايظلم القوي الضعيف....

وقد اولى العرب قبل الاسلام القضاء منزلة سامية وخصوا بها الكهنة والعرافين كسطيح الذئبي المعروف بسطيح الكاهن وشق انمار كما عهدو القضاء الى شيوخ القبائل وحكمائها فكان الرجل اذا نبغ في قبيلته تولى حكمها والقضاء فيها... وفي قبيلة قريش كان هاشم بن عبد مناف وابنه عبد الله وعبد المطلب وولده ابو طالب يتولون القضاء في قبيلتهم ويتولون التحكيم بين القبائل في نزاعاتها, كما تولاه اكثم بن صيفي الذي اعتبر افضل حاكم في عصره فهذه منزلة القضاء قبل الاسلام.

ويوم بزغت الرسالة الاسلامية ,اعطى الدين الجديد للقضاء منزلة رفيعه تفوق ماكانت عليه قبل الاسلام ويكفي القول ان الذي تولى القضاء هو صاحب الرساله النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وبأمر من ربه (فأحكم بينهم بما انزل الله ...) فأي منزلة للقضاء اسمى حين يكون نبي الامة هو قاضي الامة ... ومن بعده تولى القضاء الخلفاء الراشدون ...العادل عمر بن الخطاب وعلي بن ابي طالب الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ...واقضاهم علي.

وبعدما اتسعت رقعة الدولة الاسلامية اصبح متعذرا على الخليفة ان يتولى القضاء لكثرة مسؤولياته ,فأوكل القضاء الى افضل الصحابة واعدلهم فقد ولى ابي الدرداء قاض على المدينة وشريح قاض على البصرة وابو موسى الاشعري قاض على الكوفة وبذا نستطيع القول ان السلطة القضائية انفصلت عن السلطة التنفيذية وكان ذلك في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

واستمر القضاء في الدولة الاسلامية وفي مختلف امصارها عزيزا مرهوب الجانب .. فقد ذكر ان القاضي في عهد الامويين وصدر الدولة العباسية وكان له مركز هام ولشخصه نفوذ كبير ...ولك يكن اسرع منه في تقديم استقالته اذا تدخل في احكامه متدخل وحيث كان العراق احد امصار الدولة الاسلامية فقد كان شأن القضاء فيه عال, ثم جاء العثمانيون ومن بعدهم البريطانيون وكما هو حال كل محتل يبدأ في اضعاف المواقع الحصينة العصية عليه لكي لاتكون معارضة لما يهدف للبلد الذي يحتله وكان في مقدمة هذه المواقع الحصينة في العراق ...القضاء ,فقد زادت المداخلات في شؤونه وتعرضت صلابته الى الكثير من التنكيل .

ثم جاء الحكم الوطني وررغم مجيئه فقد بقي القضاء في العراق وكما تركه العثمانيون والبريطانيون متلمسا طريقه في اثبات كيان مستقل له فنجح في استصدار قانون ينظم شؤونه هو القانون رقم (31) لسنة 1929 (قانون الحكام والقضاة) حيث عالج هذا القانون تعيين القضاة وترفيعهم ونقلهم فكان بحق اول مكسب للقضاء عزز مكانته واستقلاله, ثم توالت القوانين التي تنظم شؤون القضاة جراء الكفاح المستميت  من القضاة لتثبيت مكانةالقضاء واستقلاله ومنها القانون رقم (39) لسنة 1929 والقانون رقم (68) لسنة 1943 والقانون رقم (27) لسنة 1945 وبموجبه بدأت خطوة متواضعة على طريق استقلال القضاء حيث حيث اخذت بعض شؤون القضاة تدار بواسطة لجنة من القضاة ومن موظفي وزارة العدل , ووضع في القانمون بعض الضمانات للقاضي ومنها عدم جواز توقيفه الا بعد الحصول على اذن من وزير العدل .

بعد صدر القانون رقم (58) لسنة 1956 ليعزز بشكل اوسع من استقلال القضاء ورفع مكانة القضاة الاجتماعية حيث  اصبح رئيس محكمة التمييز بدرجة وزير ورفعت رواتب القضاة بشكل ملموس ,وفي عام 1963صدر القانون رقم (26) لسنة 1963قانون السلطة القضائية ولاول مرة يعترف بموجبه بكون القضاء سلطة تقوم الى جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية وتدار هذه السلطة بواسطة مجلس قضاء يرأسه رئيس محكمة التمييز وهذه المحكمة هي اعلى هيئة قضائية في العراق.

ورغم ان مجلس القضاء المشكل بموجب هذا القانون كان يضم من يمثل وزارة العدل التي هي جزء من السلطة التنفيذية الا ان بقية الاعضاء كانوا من القضاة وهم الاغلبية في المجلس ومن خلال مجلس القضاء اديرت شؤون القضاة بشكل شبه مستقل عن وزارة العدل .

ولكن الصحوة هذه لم تدم طويلا حيث تم الغاء مجلس القضاء ليحل محله (مجلس العدل) الذي تولى بديلا عن مجلس القضاء ادارة شؤون القضاء والقضاة وذلك بموجب القانون رقم (101) لسنة 1977 وكان تشكيل مجلس العدل برئاسة وزير العدل ايذانا بانهاء استقلال القضاء وانهاء دوره كسلطة مستقلة عن السلطة التنفيذية ,بالرغم من ان الدستور الذي صدر القانون رقم (101) لسنة 1977 في ظله كان لايزال ينص على استقلال القضاء...ولكن هذا الاستقلال اعطى مفهوما اخر ينسجم مع توجه النظام السابق الذي لم يكن يؤمن بمبدأ فصل السلطات ,وهذا التوجه الذي كرسه قانون اصلاح النظام القانوني رقم (35) لسنة 1977 (انه توجد في  الدولة الا سلطة سياسية واحدة تقوم بوضع السياسة العامة او الاطار العام للمجتمع من خلال التشريع ,ثم وظيفة ادارية ووظيفة قضائية ولما كانت السلطة واحدة في الدولة فمعنى انتقاء فكرة تعدد السلطات ,التشريعية والتنفيذية والقضائية ..) وفي ظل هذا المفهوم للقضاء اخذت شؤون القضاة تدار من وزير العدل بحكم رئاسته لمجلس العدل ووزير العدل جزء من السلطة التنفيذية فهو مهما سما فأنه يمثل تلك السلطة وينفذ سياستها وهي في الغالب تنطوي على خرق للقانون في كثير من الاحيان وتتقاطع مع حقوق المواطن وحريته.

وخلال الفترة الممتدة مابين الغاء مجلس القضاء عام 1977واعادة تشكيله في 18/9/2003. بعد زوال النظام السابق ، كانت معاناة القضاة في اداء  مهامهم كبيرة تدور مابين التنقلات غير المبررة والاحالة على وظائف مدنية والعزل والحرمان من ممارسة المحاماة والسجن  وسد المنافذ على الطاقات القضائية الفاعلة للحيلولة دون وصول اصحابها الى المناصب القضائية المهمة لانها لاتحمل هوية نظام الحكم وانتماءاته ,وخلال تلك الفترة ايضا فتح الباب واسعا امام عناصر غير مؤهلة للدخول الى سلك القضاء لانها تحمل هوية الحكم وافكاره وانتماءاته...

وفي ظل هذه المعاناة انحسر دور القضاء في تحقيق اهدافه في مجال العدالة وسيادة القانون ...ولكن بقيت في ضمير كل قاض جذوة الانتصار للحق بوسيلة او بأخرى ورغبة جامحة في ابعاد اصابع السلطة التنفيذية من التدخل في شؤون القضاء وعملت قدر المستطاع على ابقاء القضاء مستقلا في اداء مهامه وكافح القضاة في سبيل ذلك بشكل منظور وغير منظور حتى لحظة سقوط النظام في 9/4/2003 ...ولحظة سقوطه ارتفع الصوت عاليا باستقلال القضاء ليأخذ دوره في ترسيخ سلطة القانون وحماية حقوق الانسان والحريات العامة وقد كان للقضاة ذلك حيث اعيد تأسيس (مجلس القضاء) بالامر المرقم (35) في 18/9/2003 وجاء في ديباجته (ان السبيل الى فرض حكم القانون هو نظام قضائيمن كادر مؤهل وحر ومستقل من التأثيرات الخارجية).

وبصدور هذا الامر تحقق للعراق مكسبان الاول هو السعي لاقامة دولة القانون والثاني هو ان شؤون القضاء اصبحت تدار من مجلس شكل حصرا من القضاة وهذا المجلس هو المشرف المسؤول عن النظام القضائي في العراق مستقلا عن وزارة العدل وعن السلطة التنفيذية .وعندما نطلق تعبير القضاء هنا فأننا نعني جناحيه القضاة واعضاء الادعاء العام .

ولكي يكون استقلال القضاء عن  السلطة التنفيذية وعن وزارة العدل بالذات حقيقيا ,صدر الامر المرقم (12) في 8/5/2004 وقضى بفصل موازنة مجلس القضاء عن وزارة العدل ,وكذلك الكوادر الوسطية والحراسات والمباني الخاصة بالمحاكم ومافيها من اثاث ومستلزمات وشكل صدور الامر رقم (12) لسنة 2004 تحولا جذريا في مسيرة القضاء العراقي الذي اخذ مكانه في نصوص قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية الصادر في 8/3/2004 حيث نصت المواد الواردة في الباب السادس منه .على استقلال القضاء (كسلطة) مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية يمثلها مجلس القضاء وله موازنة مستقلة عن موازنة وزارة العدل ,يتمتع قضاته بضمانات تحول دون التأثير عليهم بأي شكل من الاشكال واستقلال القضاء ليس شكلا من اشكال الكيانات التي تهدف الى الهيمنة والتحكم ..وانما مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني يقتضي الوجود الانساني وجودها لحماية حقوق الانسان وحرياته عن طريق تطبيق القانون عند الفصل في النزاعات التي تحدث بين افراد المجتمع او بينهم وبين السلطة بشكل بعيد عن كل تأثير من السلطتين التنفيذية والتشريعية او من اي مصدر اخر فقد قيل (..انه لاتوجد في الحكومات البشرية سوى قوتين رابطتين قوة السلاح وقوة القوانين ,فاذا لم يتول قوة القوانين قضاة فوق الخوف وفوق كل ملامة فان قوة السلاح هي التي ستسود حتما وبذلك تؤدي الى سيطرة النظم العسكرية على المدنية) ومن المؤكد ان وجود سلطة قضائية مستقلة تتيح للفرد مقاضاة السلطات العامة في اي تصرف مخالف للقانون يعني قيام دولة القانون كما يعني حماية حقوق المواطن وحريته ويحول دون قيام نظام دكتاتوري او لجوء الناس الى الى اخذ حقوقهم بايديهم .

وقيام سلطة قضائية مستقلة في الدولة من المبادئ التي كرستها معظم المواثيق والاتفاقات الدولية ومنها قرارر الجمعية العامة للامم المتحدة المرقم (40/32) في 29/تشرين الثاني /1985 و(40/146) في 29/كانون الاول /1985 الذي اورد المبادئ الاساسية لاستقلال السلطة القضائية والسبل التي تؤدي الى هذا الاستقلال.

ومن نافلة القول ان مبدأ استقلال السلطة القضائية لم يظهر لنفع شخصي يحققه القضاة لانفسهم وانما هو وليد نظرية فصل السلطات التي تهدف لحماية حقوق الانسان من تجاوزات السلطة القضائية ,وانه في نفس الوقت يرتب التزاما كبيرا على القضاة في ان لايتصرفوا بشكل كيفي عند الفصل في المنازعات بل بتطبيق القانون تطبيقا سليما بعيدا عن كل المؤثرات, فمهمة القضاة كانت ولاتزال وستبقى مهمة ثقيلة تهيب منها سابقا ثلاثة من اقمار الشريعة الاسلامية هم سفيان الثوري والامام ابو حنيفة وابن ابي ليلى واعتذروا, حين كلفهم القضاء الخليفة العباسي المنصور رغم كونهم اعدل واكفأ الناس في عصرهم لا لشئ وانما لشعورهم بأنه مهمة القضاء مهمة ثقيلة قد لاينجحون في ادائها في ظل تلك الظروف .ولكي تكون هناك سلطة قضائية مستقلة تؤدي مهمتها على الوجه الاكمل لابد ان تتولى الجمعية الوطنية المنتخبة في العراق الجديد حين وضعها الدستور الدائم تضمين نصوصه مبدأ استقلال القضاء وكونه سلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية , ولايكفي في ذلك وضع نصوص عامة كما هو الحال في الدساتير السابقة وانما وضع نصوص ذات محمل يفصح عن  المبادئ الاساسية التي تشكل استقلال القضاء ونذكر ونذكر من هذه المبادئ :

اولا:الاقرار بمبدأ استقلال القضاء وكونه سلطة مستقلة تعمل في مجال اختصاصها الى جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية ,وتشكل معهما ركائز الدولة الحديثة , واستنادا الى ذلك يكون للقضاء حصرا الولاية العامة في نظر المنازعات كافة وازاء جميع الاشخاص الطبيعية والمعنوية بما في ذلك الحكومة , مع مراعاة الاتفاقات الدولية بهذا الخصوص.

ثانيا:ان السلطة القضائية هي المؤسسة الوحيدة التي تدير شؤون القضاة واعضاء الادعاء العام والاجهزة القضائية المرتبطة بها ولايجوز لاي من السلطتين التشريعية والتنفيذية التدخل في شؤونها بأي شكل من الاشكال , ويتعرض المتدخل الى المسائلة القانونية.

ثالثا:تضم المؤسسة القضائية الاجهزة القضائية وهي المحاكم ودوائر الادعاء العام وهيئة الاشراف القضائي ومعهد اعداد القضاة  واعضاء الادعاء العام والكوادر الوسطية في هذه الاجهزة وكذلك اجهزة الحماية وغيرها.

رابعا:يرتبط رئيس السلطة القضائية مباشرة برئيس الدولة باعتباره الرمز الذي يمثل الدولة تأكيدا على استقلالية السلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية.

خامسا:تتمتع السلطة القضائية بالشخصية المعنوية وبالاستقلال المالي والاداري وبموازنة مستقلة تتولى اعدادها بالتنسيق مع الجهات المالية ذات الاختصاص وترفع الموازنة على رئيس الدولة مباشرة للمصادقة عليها تأكيدا على استقلالية السلطة القضائية عن اليلطة التشريعية والتنفيذية وحتة لاتكون الموازنة سبيلا للضغط على السلطة القضائية والتأثير عليها او الحد من نشاطها او استقلالها.

سادسا:تكون السلطة القضائية هي المختصة بتحديد وكفالة الاجراءات التي تتبعها المحاكم والاجهزة القضائية في حسم المنازعات وفي ادائها لبقية مهامها.

سابعا:تكون الاحكام والقرارات التي تصدرها المحاكم وبقية الاجهزة القضائية المرتبطة بالسلطة القضائية ملزمة وواجبة التنفيذ ويتعرض من يمتنع عن تنفيذها الى المسائلة القانونية .

ثامنا: يكون تعيين القضاة واعضاء الادعاء العام حصرا بالسلطة القضائية  ولا تتدخل اي من السلطتين التشريعية والتنفيذية في ذلك .

تاسعا: تدار شؤون القضاة واعضاء الادعاء كافة من قبل السلطة القضائية ممثلة بمجلس القضاء بدء من التعيين ومرورا بالترفيع والترقية والنقل وتأمين الاستقرار في الوظيفه وتحديد الرواتب والمخصصات واتخاذ الاجراءات الانضباطية واعطاء الاذن بالمسائلة الجزائية وبأستمرار التأهيل القضائي وبتأمين ,كفالة التعبير وتكون الجمعيات المهنية والاقتصادية .

عاشرا: تلتزم السلطة القضائية بوضع قانون ينظم شؤون القضاة واعطاء الادعاء العام والكوادر الوسطية العاملة في الاجهزة القضائية كافة يراعى فيه تمتع القضاة واعضاء الادعاء العام بالاستقلال في اداء مهامهم والزامهم باداء هذه المهام وفق القانون ,وان تتم ترقياتهم على اساس مؤهلاتهم القضائية دون اي اعتبار للجنس او الطائفة او الانتماء الاثني ,وتأمين الموارد المالية الكافية لهم ووضع الضمانات التي تحول دون التهديد بالانتقام او الانتقاد جراء قيامهم بمهامهم او التأثير على ادائهم لهذه المهام عن طريق وسائل الاعلام او الوعيد ,وان تجرى محاسبتهم عن السلوك المهني الخاطئ من هيئة قضائية بمستوى عال , وتأمين موارد مالية كافية لهم عند احالتهم على التقاعد ولعوائلهم بعد وفاتهم لتأمين الاستقرار والاطمئنان الى المستقبل وللحيلولة دون لجوء اعضاء هذه السلطة لتامين ذلك بوسائل غير مشروعة.

حادي عشر:ان لايجري تغيير النصوص الدستورية المتعلقة بالسلطة القضائية الا باغلبية الثلثين في الجمعية الوطنية .

وبهذا يمكن للدستور ونصوصه تأمين الضمانة الاكيدة في حماية استقلال القضاء وفي تمكينه من اداء دوره في قيام وترسيخ دولة القانون وفي حماية حقوق الانسان وحرياته وفي تأمين العدالة للمجتمع.